حكم غزواني: اللانمطية في وجه الضجيج / د . اسماعيل ولد الشيخ سيديا

ليست كل مراحل الحكم متشابهة، ولا كل التجارب تُقاس بالضجيج الذي يرافقها،فثمة فترات تُقرأ في صخبها، وأخرى تُفهم في صمتها، وما تعيشه موريتانيا خلال السنوات الأخيرة ينتمي بوضوح إلى الصنف الثاني، مرحلة تشكّلت خارج الإيقاع المألوف، وأُديرت بعقل بارد، وحُكمت بمنطق الدولة لا بمنطق الاستعراض الإعلامي، في خروج محسوب عن تقاليد سياسية طالما ربطت الحزم بعلو الصوت، والسلطة بالاستعراض.
في قلب هذه المرحلة، يبرز الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بوصفه نموذجًا غير مألوف في محيطه، رئيسًا اختار أن يعمل في صمت، وأن يتخذ قراراته بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، وأن يمارس الحزم دون أن يحوّله إلى شعار،ولا إلى خطابات نارية، ولا سباق نحو الأضواء، ولا افتعال للأزمات من أجل إدارة المشهد، بل إدارة هادئة تعرف متى تتكلم الدولة ومتى تكتفي بالفعل.
هذا الصمت، الذي أُسيء فهمه في البدايات، لم يكن غيابًا عن القرار، بل تمركزًا في عمقه،فالرئيس الذي لا يكثر من الكلام كان حاضرًا في التفاصيل، حاسمًا حين تفرض اللحظة حسمًا، ومتريثًا حين يكون التريث أداة قوة لا علامة ضعف ،ومع مرور الوقت، تبيّن أن الهدوء لم يكن انسحابًا من المشهد، بل سيطرة عليه من زاوية أخرى، أقل صخبًا وأكثر فاعلية.
لقد كشفت التجربة أن الحزم الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج، وأن القرارات الكبرى لا تزداد وزنًا كلما ارتفع صوت الإعلان عنها،بعض أقوى ما أُنجز في هذه المرحلة تم في صمت شبه كامل، دون حملات ترويج ،أو استعراض سياسي، وهو ما جعل أثره أعمق من صداه،إنها قوة الفعل حين يُترك ليعمل، لا ليُشرح، وحين تُقاس نتائجه بالاستقرار لا بعدد العناوين.
غير أن المفارقة اللافتة في هذه التجربة لم تأتِ من خصومها، بل من داخل محيطها الداعم،فقد تحوّل السعي إلى القرب من الرئيس، لدى بعض أنصاره، إلى تنافس صامت، يُبخّس فيه كل طرف جهد الآخر، وكأن الاعتراف لا يتسع إلا لاسم واحد، فبدل أن تتراكم الجهود، تصادمت الروايات، وبدل أن يُبنى المنجز على المنجز، جرى التقليل منه إن لم يُنسب إلى الجهة “الصحيحة”.
هذا السلوك لم يكن انعكاسًا لطبيعة القيادة، بل تشويهًا لها.،فالرئيس، المعروف بابتعاده عن صراعات الأجنحة وبميله إلى العمل المؤسسي والفريق الواحد، لم يكن يومًا مشجعًا لهذا النمط من التنافس،ومع ذلك ظل متمسكًا بخياره: (الصمت حين يعلو اللغط، والعمل حين ينشغل الآخرون بالكلام)، وكأن الرهان كان دائمًا على أن الزمن كفيل بفرز الجاد من العابر.
وفي هذا السياق، بدأ سؤال الاستمرارية يفرض نفسه بهدوء، لا بوصفه شعارًا، بل باعتباره نتيجة لمسار سياسي متماسك،فأنصار هذا النهج يرون أن ما راكمته التجربة من استقرار وحكم متزن يمنح الرئيس مشروعية سياسية واضحة للاستمرار، بل ويذهبون إلى أن له الحق في مأمورية ثالثة، انطلاقًا من قراءة سياسية ترى في الاستمرارية تثبيتًا لمسار لم يكتمل، لا امتيازًا شخصيًا ولا خروجًا عن منطق الدولة.
وهو نقاش، مهما اختلفت حوله الآراء، يعكس إدراكًا متزايدًا بأن هذه التجربة لا يمكن اختزالها في عدد المأموريات أو في حرارة الجدل، بل في طبيعة النموذج الذي قدمته: نموذج قيادة لا تستعجل التصفيق، ولا تبحث عن الإجماع اللحظي، ولا تخشى سوء الفهم المؤقت، لأنها تراهن على أثر بعيد المدى.
في المحصلة، نحن أمام تجربة حكم راهنت على الصمت حين كان الكلام أسهل، وعلى الحزم حين كان التراخي مغريًا، وعلى الدولة حين كان الاستعراض أكثر شعبية،تجربة قد لا تُرضي عشّاق الإثارة السياسية، لكنها تفرض نفسها على من يقرأ السياسة بوصفها فن إدارة الممكن لا سباقًا في رفع الشعارات،وفي زمن يعلو فيه الضجيج، يبدو أن أقوى ما قُدِّم هنا هو درس بسيط في جوهره: أن السلطة قد تكون في أوجها حين تختار أن تعمل…لا
أن تتكلم.

