انجبنان أرومة العلم في أرض المنارة والرباط

انجبنان أرومة العلم في أرض المنارة والرباط
اختلطت وشائج التاريخ والجغرافيا لتنتج لنا حضارات وأمما عرفها المنكب البرزخي، كان لها الأثر البارز في الحضارة الإنسانية جمعاء من لدن الفينيقيين وحتى الفتوحات الإسلامية.
وهنا لابد أن نشير إلى المعلم الأول الشيخ عبد الله بن ياسين الذي لبى صرخة الأمير يحي بن إبراهيم الكدالي، الذي شكا بعد أهله عن الدين، وقام هذا الشيخ بإنشاء الرباط الذي أسس لنظام علمي جمع بين السيف والقلم، فطفق يعلم الناس وينشر التعاليم الإسلامية الصحيحة في إفريقيا والأندلس فاتحا ومعلما، مؤسسا للدولة المرابطية التي حكمت المغرب الأقصى والأندلس قرابة قرنين من الزمن.
وقد استقدم المرابطون خمسة معلمين من بينهم أبوبكر بن عامر، والإمام الحضرمي، وعبد الرحمن الركاز، شكلوا نواة رباط معرفي رصين أنجبت فيما بعد المحاظر التي غمرت المغرب الأقصى آنذاك وشكلت حواضر علمية ما فتئت تنشر العلم حتى عرف الوطن بإحدى الحواضر العلمية شنقيط، وسمي سكان المنطقة حينها بالشناقطة في هذا الصرح العلمي الكبير.
تكاثرت الأعلام التي تخرجت من هذه المؤسسات العلمية العريقة كمحمد بن أبي بكر الواداني، ويحي الولاتي، ومحمد بن سعيد اليدالي وغيرهم، وكل يحمل راية العلم خفاقة جيلا بعد جيل، وكابرا عن كابر، حتى وصلت إلى علم ملهم وهو أول من ألف في شرح ألفية ابن مالك في النحو في هذه الأرض الولادة مهد العلماء.
إنه العلامة الفهامة الجهبذ الرحلة المسمى المختار المشتهر باتشغ انجبنان بن محمذن بن أحمد جهج من قبيلة “أولاد اتشغ حيبل” حيث يصل نسبه إلى الشريف أبي بزول القلقمي.
سنمخر عباب النسب العلمي لهذا العلم الذي طبقت شهرته الآفاق أكثر من تناولنا لنسبه الطيني، ولد هذا الشيخ الجليل سنة 1060 هجرية، شب وترعرع في وسط علمي، ولا يعرف له شيخ، وهذا يشي بأنه اعتمد على تكوين ذاتي autodidacte أي أنه تعلم من دون معلم، وهذا نبوغ وتميز، وتتلمذ على يديه أبناؤه الستة ومارسوا القضاء في حياته، ويوثق محمد الأمجد ولد عبد الودود هذا المعني بقوله:
ولانجبنان رهط لا يبارى
ونيل العلم منه ومن بنيه
قضت معه من البنين ست
فما لأمين عندي من شبيه
ثم تسابق الفطاحلة إلى شطآنه لينهلوا من معين علمه، كالمختار بن بونه الذي تتلمذ عليه في المتمات وهي التوحيد، والمنطق، واللغة العربية، واتفغ الخطاط الذي تعلم منه اللغة، والنحو، والقراءات السبع، ويشير الشيخ محمد المامي -واصفا انجبنان بالمجدد- لهذه العلاقة بين هؤلاء الأعلام والعلامة اتشغ انجبنان بقوله:
وقد ثوى الفغ الخطاط بينهم
والأخذ عن جلة الإسلام ميمون
وسار فينا بنوه الغر وسيرته
في تبع أورقت منه الأغاصين
وشرطوا آية الغرب ابن بونه فلم
ينكر عليه ولا العمش الجواكين
وليس يجهل من في المغربين ثوى
شمسين أفقهما بون وزيدون
وفيهم الأحمديون الذين هم
معالم الخير فينا والمعادين
ولم يؤلف لانجبنان فيه على
تجديده ألف هاو ولا نون
ويؤكد تلك العلاقة العضوية بين انجبنان والنحو بل اللغة عموما ذكر محمد محمود ولد اتلاميد له مع أساطين النحو وسدنة الحرف العربي مبرزا بذلك رسوخ قدمه، في قصيدة ألقاها أمام ملك السويد عندما طلب من الخليفة العثماني إيفاد من يمثل العالم الإسلامي فأنشد
ولم يشعر القاري الكسائي عليهم
ولم يشعر الفراء بعد ولا الجرمي
ولا ثعلب ولا المبرد قرنه
ولا الفارسي فارس النصب والجزم
ولم يشعر ابن الحاجب الندب حبرهم
ولم يشعر ابن مالك الرفع والضم
ولا ابن هاشم جامع النحو لبه
بمغن وتوضيح وقطر ندى يهمي
ولم يشعر المختار منشي احمراره
لنفع عباد الله من نحوه الطم
ولا شيخه انجبنان من كان عنده
له فتح الرحمن في النحو في الحلم
ولا ابن ابنه عبد الودود الذي غدا
له نحوه إرثا مباحا بلا قسم
ومن تلامذة انجبنان متالي والد محمذن فال ولد متالي بأن يسمى ابنه – وهو مازال حملا- بعد وفاته على اسم شيخه انجبنان، وأن يعق عنه ببقرة حددها.
وقد ثبت أن سيدي عبد الله بن رازكه كان يرتاد دروس اتشغ انجبنان المتعلقة بالتفسير والقراءات، ويحكى أنه مرة قام بتصحيف كلمة لتلميذ كان يقرأ على انجبنان فقرأها التلميذ يضمن، فلم يستسغ اتشغ انجبنان ذلك، فقال ابن رازكه بأنها يضمر وفق سليقته المعهودة، فقال انجبنان: قرأها اللوذعي.
ومما يؤكد علاقة انجبنان أيضا بابن بونه قول الأخير عندما مر بمنازل الميمون -قرب واد الناقة حاليا- متذكرا أيام دراسته على شيخه انجبنان
تذكرت أياما لنا ولياليا
عذابا عذابا ذكرها حين تذكر
منازل بالميمون بعدي تغيرت
لها منزل بالقلب لا يتغير
يؤثر عن انجبنان علو كعبه في أرض المنارة والرباط، فقد تصدر في علوم الآلة والفقه والتفسير، وفنون أخرى لم تصل إلينا، ويقول عنه محمد عالي ولد سيدي ولد سعيد الملقب “معي”: “ارتضته الناس في زمانه قاضيا وقضى أولاده الستة معه” وكان يكتب ” لا يشتكى نجاري، ولا يرد قاض حكمي” ويقصد بنجاري نسبته للقلقميين.
وكما يقول عنه المؤرخ محمذن ولد باباه أطال الله بقاءه: “قل أن يجمع العالم الشنقيطي بين التعليم والتأليف، وإذا كان هناك استثناء في هذه القاعدة فهو انجبنان”
لتشغ انجبنان الكثير من المؤلفات منها كتاب “أس الإسلام” وهو مطبوع، تحقيق الأستاذ محمذن ولد باباه حفظه الله، وهناك تحقيق آخر لهذا الكتاب للقاضي محمد عبد الرحمن ولد محمد مفيد أمد الله في عمره. وهناك كتاب ما زال مخطوطا وهو موسوعة علمية موسومة ب “شافي الغليل الجامع بين الخلاصة والتسهيل” عاج فيها انجبنان على آراء النحاة المختلفة، وفرغ كنانته في البحث والتعمق والمقارنة بين المشارقة والمغاربة بأسلوب بديعي وأخاذ، وله اختيارات وترجيحات تنبئ عن تمكنه وإتقانه لهذا الفن صعب المراس الذي سبر أغواره واستنطق كنهه، وغاص في مكنوناته، ونثر درره .
لا يمكننا في هذه الجذاذة أن نعطي هذا العلم القطمطم حقه وإنما نسجل بصدق ما أمكننا الوصول إليه في بحر لجي من العلم لا قرار له، فالكثير من مؤلفاته لعبت بها عاديات الزمن، برحيله احترقت مكتبات، فقد رحل بعلمه، ولم يتبق إلا النزر القليل.
وقد ذكر العلامة محمد سالم ولد عبد الودود الملقب بعدود انجبنان في سنده العلمي قبل محمد بن محمد سالم المجلسي، وهذا إبراز لمكانته العلمية وحضوره الطاغي في ربوع العلم والمعرفة، وعزى له العلامة محمذن ولد محمد الامين الملقب ب “اب” في كتابه “مناهج الهداة في تعلق الصفات” لمؤلفات مفقودة، وكرس انجبنان مبدأ عدم الاتكال على الأسباب وفق مبدإ عندها لا بها، وهذا يدل على كونه شخصية مرجعية علمية ومعين علم لا ينضب، فلقد أسس محظرة إن لم تكن أصل المحاظر فهي المنهج الجامع المانع في علوم اللغة والفقه وغيرها من العلوم كما هو متعارف عليه اليوم.
ترجل فارس النحو ومنارة العلم عن عالمنا سنة 1160 هجرية، ليسدل الستار على مسيرة حافلة بالعطاء اللامحدود لعلم فذ، ما زال الكثير من أهل فن النحو والعلم يتفيأ ظلال إشراقاته العلمية.